فصل: تفسير الآية رقم (101):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (100):

{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)}
{أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا} أي يخلفون من خلا قبلهم من الأمم، والمراد بهم كما روي عن السدى المشركون وفسروا بأهل مكة ومن حولها، وعليه لا يبعد أن يكون في الآية إقامة الظاهر مقام الضمير إذا كان المراد بأهل القرى سابقًا أهل مكة وما حولها، وتعدية فعل الهداية باللام لأنها كما روي عن ابن عباس. ومجاهد عنى التبيين وهو على ما قيل: إما بطريق المجاز أو التضمين أو لتنزيله منزلة اللازم كأنه قيل: أغفلوا ولم يفعل الهداية لهم {أَن لَّوْ نَشَاء أصبناهم بِذُنُوبِهِمْ} أي بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم، وإذا ضمن اصبنا معنى أهلكنا لا يحتاج إلى تقدير مضاف. وأن مخففة من الثقيلة وسمها ضمير شأن مقدر وخبره الجملة الشرطية والمصدر المؤول فاعل {يَهْدِ} ومفعوله على احتمال التضمين محذوف أي أو لم يتبين لهم مآل أمرهم أو نحو ذلك. وجوز أن يكون الفاعل ضمير الله تعالى وأن يكون ضميرًا عائدًا على ما يفهم مما قبل، أي أو لم يهد لهم ما جرى على الأمم السابقة. وقرأ عبد الرحمن السلمي. وقتادة، وروي عن مجاهد. ويعقوب {نهد} بالنون فالمصدر حينئذ مفعول، ومن الناس من خص اعتبار التضمين أو المجاز بهذه القراءة واعتبار التنزيل منزلة اللازم بقراءة الياء، وفيه بحث، وقوله تعالى: {وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ} جملة معترضة تذييلية أي ونحن من شأننا وسنتنا أن نطبع على قلب من لم نرد منه الأيمان حتى لا يتعظ بأحوال من قبله ولا يلتفت إلى الأدلة، ومن أراد من أهل القرى فيما تقدم أهل مكة جعله تأكيدًا لما نعى عليهم من الغرة والأمن والخسران أي ونحن نطبع على قلوبهم فلذلك اقتفوا آثار من قبلهم ولم يعتبروا بالآيات وأمنوا من البيات لمستخلفيهم حذو النعل بالنعل. وجوز عطفه على مقدر دل عليه قوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَهْدِ} وعطفه عليه أيضًا وهو وإن كان إنشاء إلا أن المقصود منه الأخبار بغفلتهم وعدم اهتدائهم أي لا يهتدون أو يغفلون عن الهداية أو عن التأمل والتفكر ونطبع إلخ.
وجوز أن يكون عطفا على يرثون، واعترض بأنه صلة والمعطوف على الصلة صلة ففيه الفصل بين أبعاض الصلة بأجنبي وهو {أَن لَّوْ نَشَاء} سواء كانت فاعلًا أو مفعولًا، ونقل أبو حيان عن الأنباري أنه قال: يجوز أن يكون معطوفًا على {أصبنا} إذا كان عنى نصيب فوضع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال كما في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الذي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مّن ذلك} [الفرقان: 10] أي إن يشأ، يدل عليه {وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا} [الفرقان: 10] فجعل لو شرطية عنى إن ولم يجعلها التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره وجعل أصبنا عنى نصيب، وقد يرتكب التأويل في جانب المعطوف فيؤول {نَطْبَعُ} بطبعنا، ورد الزمخشري هذا العطف بأنه لا يساعد عليه المعنى لأن القوم كانوا مطبوعًا على قلوبهم موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها وذلك يؤدي إلى خلوهم عن هذه الصفة وأن الله تعالى لو شاء لاتصفوا بها، وتعقبه ابن المنير بأنه لا يلزم أن يكون المخاطبون موصوفين بالطبع ولابد وهم وإن كانوا كفارًا ومقترفين للذنوب فليس الطبع من لوازم الاقتراف البتة إذ هو التمادي على الكفر والإصرار والغلو في التصميم حتى يكون الموصوف به مأيوسًا من قبوله للحق ولا يلزم أن يكون كل كافر بهذه المثابة بلى إن الكافر يهدد لتماديه على الكفر بأن يطبع الله تعالى على قلبه فلا يؤمن أبدا وهو مقتضى العطف على {أصبنا} فتكون الآية قد هددتهم بأمرين الإصابة بذنوبهم والطبع على قلوبهم والثاني أشد من الأول وهو أيضًا نوع من الإصابة بالذنوب والعقوبة عليها ولكنه أنكى أنواع العذاب وأبلغ صنوف العقاب، وكثيرًا ما يعاقب الله تعالى على الذنب بالإيقاع في ذنب أكبر منه، وعلى الكفر بزيادة التصميم عليه والغلو فيه كما قال سبحانه: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] كما زادت المؤمنين إيمانًا إلى إيمانهم وهذا النوع من الثواب والعقاب مناسب لما كان سببًا فيه وجزاء عليه فثواب الإيمان إيمان وثواب الكفر كفر، وإنما الزمخشري يحاذر من هذا الوجه دخول الطبع في مشيئة الله تعالى وذلك عنده محال لأنه بزعمه فبيح والله سبحانه عنه متعال، وفي التقريب نحو ذلك فإنه نظر فيما ذكره الزمخشري بأن المذكور كونهم مذنبين دون الطبع وأيضًا جاز أن يراد لو شئنا زدنا في طبعهم أو لأمناه، والحق كما قال غير واحد من المحققين أن منعه من هذا العطف ليس بناء على أنه لا يوافق رأيه فقط بل لأن النظم لا يقتضيه فإن قوله سبحانه: {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} أي سماع تفهم واعتبار يدل على أنهم مطبوع على قلوبهم لأن المراد استمرار هذه الحال لا أنه داخل في حكم المشيئة لأن عدم السماع كان حاصلًا ولو كان كذلك لوجب أن يكون منفيًا، وأيضًا التحقيق لا يناسب الغرض، و{كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين} [الأعراف: 101] ظاهر الدلالة على أن الوارثين والموروثين كل من أهل الطبع وكذا قوله سبحانه: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} [الأعراف: 101] يدل على أن حالهم منافية للإيمان وأنه لا يجيء منه البتة وأيضًا إدامة الطبع أو زيادته لا يصلح عقوبة للكافرين بل قد يكون عقوبة ذنب المؤمن كما ورد في الصحيح وما يورد من الدغدغة على هذا مما لا يلتفت إليه.

.تفسير الآية رقم (101):

{تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)}
{تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا} جملة مستأنفة جارية مجرى الفذلكة مما قبلها منبئة عن غاية غواية الأمم المذكورة وتلك إشارة إلى قرى الأمم المحكية من قوم نوح وعاد وثمود وأضرابهم، واللام للعهد وجوز أن تكون للجنس، وهو مبتدأ والقرى صفته والجملة بعده خبر.
وجوز الزمخشري أن تكون تلك مبتدأ، والقرى خبر، والجملة خبر بعد خبر على رأي من يرى جواز كون الخبر الثاني جملة، وأن تكون الجملة حالا، وإفادة الكلام بالتقييد بها، واعترضه في التقريب بأنه جعل شرط الإفادة التقييد بالحال وعلى تقدير كون ذلك خبرًا بعد خبر ينتفي الشرط إلا أن يريد تلك القرى المعلومة حالها أو صفتها على أن اللام للعهد لكنه يوجب الاستغناء عن اشتراط إفادته بالحال انتهى، وفيه أن حديث الاستغناء ممنوع فإن المعنى كما في الكشف على التقديرين مختلف لأنه إذا جعل حالا يكون المقصود تقييده بالحال كما ذكره الزجاج في نحو هذا زيد قائمًا إذا جعل قيدًا للخبر إن الكلام إنما يكون مع من يعلم أنه زيد والاجاء الإحالة لأنه يكون زيد قائمًا كان أولا، وإذا جعل خبرًا بعد خبر فتلك القرى على أسلوب {ذَلِكَ الكِتَاب} [البقرة: 2] على أحد الوجوه و{نَقْصٍ} خبر ثان تفخيمًا على تفخيم حيث نبه على أن لها قصصًا وأحوالًا أخرى مطوية.
وقال الطيبي: إن الحال لما كانت فضلة كان الاشكال قائمًا في عدم إفادة الخبر فأجيب بأنها ليست فضلة من كل وجه وأما الخبر فلا عجب من كونه كالجزء من الأول كما في قولك هذا حلو حامض، وهذا نزلته، وفيه أن عد ما نحن فيه من ذلك القبيل حامض ومستغنى عنه بالحلو، ومثله بل أدهى وأمر الجواب بأنه لما اشترك الحلوان في ذات المبتدأ كفى إفادة أحدهما وصيغة المضارع للإيذان بعدم انقضاء القصة بعد و{مِنْ} للتبعيض أي بعض أخبارها التي فيها عظة وتذكير، وتصدير الكلام بذكر القرى وإضافة الأنباء أي الأخبار العظيمة الشأن إليها مع أن المقصود أنباء أهلها وبيان أحوالهم حسا يؤذن به قوله سبحانه: {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} لما ذكره سيخ الإسلام من أن حكاية هلاكهم بالمرة على وجه الاستئصال بحيث يشمل أماكنهم أيضًا بالخسف بها والرجفة وبقائها خاوية معطلة أهول وأفظع، والباء في قوله تعالى: {بالبينات} متعلقة أما بالفعل المذكور على أنها للتعدية، وإما حذوف وقع حالا من فاعله أي متلبسين بالبينات على معنى أن رسول كل أمة من الأمم المهلكة الخاص بهم جاءهم بالمعجزات البينة الجمة لا أن كل رسول جاء ببينة واحدة، وما ذكروه من أن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد لا يقتضي كما قال المولى المدقق أبو القاسم السمرقندي في تعليقاته على المطول أن يلزم في كل مقابلة مقارنة الواحد للواحد لأن انقسام الآحاد على الآحاد كما يجوز أن يكون على السواء يجوز أن يكون على التفاوت، مثلا إذا قيل: باع القوم دوابهم يفهم أن كلا منهم باع ماله من دابة، ويجوز أن تتعدد دابة البعض، ولهذا قبل في قوله سبحانه: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] إن غسل يدي كل شخص ثابت بالكتاب والمقام هنا يقتضي ما ذكرناه فإن الجملة مستأنفة مبينة لكمال عتوهم وعنادهم، وقول عز شأنه: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} بيان لاستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضي لا لعدم استمرار إيمانهم، ونظير ذلك {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]، وترتيب حالهم هذه على مجيء الرسل بالبينات بالفاء لما أن الاستمرار على فعل بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه يعد بحسب العنوان فعلا جديدًا وصنعًا حادثًا كما في وعظته فلم ينزجر ودعوته فلم يجب، واللام لتأكيد النفي أي فما صح وما استقام لقوم من أولئك الأقوام في وقت من الأوقات ليؤمنوا بل كان ذلك ممتنعًا منهم إلى أن لقوا ما لقوا لغاية عتوهم وشدة شكيمتهم في الكفر والطغيان ثم إن كان المحكى آخر حال كل قوم منهم فالمراد بعدم إيمانهم هو إصرارهم على ذلك بعد اللتيا والتي وا أشير إليه بقوله تعالى: {ا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} تكذيبهم من لدن مجيء الرسل عليهم السلام إلى وقت الإصرار والعناد، وهذا معنى كلام الزجاج فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية تلك المعجزات بما كذبوا قبل رؤيتها، يعني أول ما جاؤوهم فاجأوهم بالتكذيب فأتوا بالمعجزات فأصروا على التكذيب وإلى هذا ذهب الحسن أيضًا، وإنما لم يجعل ذلك مقصودًا بالذات كالأول بل جعل صلة للموصول المحذوف عائده أي الذي كذبوه إيذانًا بأنه بين في نفسه، وإنما المحتاج إلى البيان عدم إيمانهم بعد تواتر البينات الباهرة وتظاهر المعجزات الظاهرة التي كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من ذوي العقول، والموصول الذي تعلق به الإيمان والتكذيب إيجابًا وسلبًا عبارة عن جميع الشرائع التي جاء بها كل رسول أصولها وفروعها وإن كان المحكى جميع أحوال كل قوم منهم فالمراد على ما قيل بما ذكر أولا كفرهم المستمر من حين مجيء الرسل عليهم السلام إلى آخر أمرهم وا أشير إليه آخرًا تكذيبهم قبل مجيئهم فلابد من جعل الموصول عبارة عن أصول الشرائع التي لا تقبل التبدل والتغير واجتمعت الرسل قاطبة عليها ودعوا الأمم إليها كلمة التوحيد ولوازمها ومعنى تكذيبهم بها قبل مجيء الرسل أنهم كانوا يسمعونها من بقايا من قبلهم فيكذبونها لا أن العقل يرشد إليها ويحكم بها ويخالفونه ثم كانت حالهم بعد مجيء الرسل إليهم كحالهم قبل كأن لم يبعث إليهم أحد وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدلالة النص فإنهم حين لم يؤمنوا بما اجتمعت عليه كافة الرسل فلأن لا يؤمنوا بما تفرد به بعضهم أولى، وعدم جعل هذا التكذيب مقصودًا بالذات لما أنه ليس مدار العذاب بل مداره التكذيب بعد البعثة كما يفصح عنه قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وإنما ذكر ما وقع قبلها بيانًا لعراقتهم في الكفر والتكذيب، وقيل: المراد بما أشير إليه آخرا تكذيبهم الذي أسروه يوم الميثاق، وروي ذلك عن أبي بن كعب. والربيع. والسدى. ومقاتل. واختاره الطبري.
وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم وغيرهما عن مجاهد أن الآية على حد قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28] فالمعنى ما كانوا لو أهلكناهم ثم أحييناهم ليؤمنوا بما كذبوا قبل إهلاكهم، وعلى هذا فالمراد بالموصول جميع الشرائع أصولها وفروعها وفيه من المبالغة في إصرارهم وعتوهم ما لا يخفى إلا أنه في غاية الخفاء، وأيا ما كان فالضمائر الثلاثة متوافقة في المرجع، وقيل ضمير {كَذَّبُواْ} راجع إلى أسلافهم، والمعنى فما كان الأبناء ليؤمنوا بما كذب به الآباء، ولا يخفى ما فيه من التعسف، وذهب الأخفش إلى أن الباء سببية وما مصدرية والمعنى عليه كما قيل: فما كانوا ليؤمنوا الآن أي عند مجيء الرسل لما سبق منهم من التكذيب الذي ألفوه وتمرنوا عليه قبل مجيئهم أو لم يؤمنوا قط واستمروا على تكذيبهم لما حصل منهم من التكذيب حين مجيء الرسل.
{كذلك} أي مثل ذلك الطبع الشديد المحكم {يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين} أي قلوبهم فوضع المظهر موضع المضمر ليدل على أن الطبع بسبب الكفر وإلى هذا يشير كلام الزجاج وصرح به بعضهم، ويجوز ولعله الأولى أن يراد بالكفافرين ما يشمل المذكورين وغيرهم وفي ذلك من تحذير السامعين ما لا يخفى، وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وإدخال الروعة.

.تفسير الآية رقم (102):

{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)}
{وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم} أي أكثر الأمم المذكورين، ووجد متعدية لواحد واللام متعلقة بها كما في قولك: ما وجدت لزيد مالا أي ما صادفت له مالا ولا لقيته أو حذوف كما قال أبو البقاء وقع حالا من قوله تعالى: {مَّنْ عاهد} لأنه في الأصل صفة للنكرة فلما قدمت عليها انتصبت حالا ومن مزيدة للاستغراق وجوز أن تكون وجد علمية والأول أظهر، والكلام على تقدير مضاف أي ما وجدنا وفاء عهد كائن لأكثرهم فإنهم نقضوا ما عاهدوا عليه الله تعالى عند مساس البأساء والضراء قائلين {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِين} [يونس: 22] وإلى هذا ذهب قتادة وتخصيص هذا الشأن بأكثرهم ليس لأن بعضهم كانوا يوفون بالعهد بل لأن بعضهم كانوا لا يعهدون ولا يوفون، وقيل: المراد بالعهد ما وقع يوم أخد الميثاق، وروي ذلك عن أبي بن كعب. وأبي العالية، وقيل: المراد به ما عهد الله تعالى إليهم من الإيمان والتقوى بنصب الدلائل والحجج وإنزال الآيات، وفسره ابن مسعود بالإيمان كما في قوله تعالى: {اتخذ عِندَ الرحمن عَهْدًا} [مريم: 78]، وقيل: هو عنى البقاء أي ما وجدنا لهم بقاء على فطرتهم، والمراد بالأكثر في الكل الكل، وذهب كثير من الناس إلى أن ضمير أكثرهم للناس وهو معلوم لشهرته، والجملة إلى فاسقين اعتراض لأنه لا اختصاص له بما قبله لكن لعمومه يؤكده. وعلى الأول تتميم على ما نص عليه الطيبي وغيره {وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ} أي أكثر الأمم أو أكثر الناس أي علمناهم كقولك: وجدت زيدًا فاضلًا وبين وجد هذه ووجد السابق على المعنى الأول فيه الجناس التام المماثل و{ءانٍ} مخففة من الثقيلة وضمير الشأن محذوف ولا عمل لها فيه لأنها ملغاة على المشهور، وتعين تفسير وجد بعلم الناصبة للمبتدأ والخبر لدخولها عليهما، فقد صرح الجمهور أنها لا تدخل إلا على المبتدأ أو على الأفعال الناسخة وخالف في ذلك الأخفش فلا يرى ذلك.
وجوز دخولها على غيرهما، وذهب الكوفيون إلى أن إن نافية، واللام في قوله سبحانه: {لفاسقين} اللام الفارقة وعند الكوفيين أن إن نافية واللام عنى إلا أي ما وجدنا أكثرهم الا خارجين عن الطاعة ويدخل في ذلك نقض العهد، وذكر الطيبي أنه إذا فسر الفاسقون بالناكثين يكون في الآية الطرد والعكس، وهو أن يؤتي بكلامين يقرر الأول نطوقه مفهوم الثاني وبالعكس، وهو كقوله تعالى: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم} إلى قوله سبحانه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} [النور: 58] فمنطوق الأمر بالاستئذان في الأوقات الثلاثة خاصة مقرر لمفهوم رفع الجناح فيما عداها وبالعكس، وكذا قوله تعالى: {لاَّ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] وهذا النوع من الأطناب يقابله في الإيجاز نوع الاحتباك.